فصل: سورة البروج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (27- 33):

{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)}
{وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} عطفٌ على ختامُه، صفةٌ أخرى لرحيقٍ مثله وما بينَهما اعتراضٌ مقررٌ لنفاستِه أي ما يمزجُ به ذلكَ الرحيقُ من ماءِ تسنيمٍ على أنَّ مِنْ بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ أو من نفِسه على أنَّها ابتدائيةٌ. والتسنيمُ علمٌ لعينٍ بعينِها سميتُ به إمَّا لأنَّها أرفعُ شرابٍ في الجنةِ، وإمَّا لأنَّها تأتيهُم من فوقِ. رُويَ أنَّها تجري في الهواءِ متسنمة فتنصب في أوانيهم {عَيْناً} نصبَ على الاختصاصِ وجوازُ أنْ يكونَ حالاً من تسنيمٍ مع كونِه جامداً لاتصافِه بقولِه تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا المقربون} فإنَّهم يشربونها صِرفاً وتمزجُ لسائر أهلِ الجنةِ فالباءُ مزيدةٌ أو بمَعْنى منْ. وقوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ} إلخ حكايةٌ لبعضِ قبائحِ مُشركي قريشٍ جيءَ بها تمهيداً لذكرِ بعضِ أحوالِ الأبرارِ في الجنةِ {كَانُواْ} في الدُّنيا {مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} أي يستهزئونَ بفقرائهم كعمارٍ وصهيبٍ وخبَّابٍ وبلالٍ وغيرِهم من فقراءِ المؤمنينَ. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ إمَّا للقصرِ إشعاراً بغايةِ شناعةِ ما فعلُوا أي كانُوا من الذينَ آمنوا يضحكونَ مع ظهور عدمِ استحقاقِهم لذلكَ على منهاج قولِه تعالى: {أَفِى الله شَكٌّ} أو لمراعاةِ الفواصلِ. {وَإِذَا مَرُّواْ} أي فقراءُ المؤمنين {بِهِمُ} أي بالمشركينَ وهم في أنديتِهم وهو الأظهرُ إن جازَ العكسُ أيضاً {يَتَغَامَزُونَ} أي يغمزُ بعضهم بعضاً ويشيرونَ بأعينِهم {وَإِذَا انقلبوا} من مجالسهِم {إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ} ملتذينَ بذكرِهم بالسوءِ والسخريةِ منهم وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم كانُوا لا يفعلونَ ذلكَ بمرأى من المارينَ بهم ويكتفونَ حينئذٍ بالتغامزِ وقرئ: {فاكهينَ} قيلَ: هُمَا بمَعْنَى، وقيلَ: فكهينَ أشرينَ، وقيلَ: فرحينَ وفاكهينَ متفكهينَ، وقيلَ: ناعمينَ، وقيلَ: مازحينَ. {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أينما كانُوا {قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ} أي نسبُوا المسلمينَ ممن رأوهم ومن غيرهم إلى الضلال بطريق التأكيد. {وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ} على المسلمينَ {حافظين} حالٌ من واوِ قالُوا: أي قالوُا ذلكَ والحالُ أنَّهم من جهةِ الله تعالى موكلينَ بهم يحفظونَ عليهم أحوالَهم ويهيمنونَ على أعمالِهم ويشهدونَ برشدِهم وضلالِهم وهذا تهكمٌ بهم وإشعارٌ بأنَّ ما اجترأوا عليه من القولِ من وظائفِ من أرسلَ من جهتهِ تعالى وقد جُوِّز أن يكونَ ذلكَ من جملةِ قولِ المجرمينَ كأنَّهم قالُوا إنَّ هؤلاءِ لضالونَ وما أُرسلوا علينا حافظينَ إنكاراً لصدِّهم عن الشركِ ودعائِهم إلى الإسلامِ وإنما قيلَ: عليهم نقلاً له بالمعنى كما في قولك حلفَ ليفعلنَّ لا بالعبارةِ كما في قولِك حلف لأفعلنَّ.

.تفسير الآيات (34- 36):

{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
{فاليوم الذين ءامَنُواْ} أي المعهودنَ من الفقراءِ {مّنَ الكفار} أي من المعهودينَ وهو الأظهرُ وإن أمكنَ التعميمُ من الجانبينِ {يَضْحَكُونَ} حين يرونَهم أذلأَ مغلولينَ قد غِشيهم فنونُ الهوانِ والصَّغارِ بعد العزةِ والكبرِ ورهقهم ألوانُ العذابِ بعد التنعمِ والترفهِ. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ تحقيقاً للمقابلةِ أي فاليومَ هم من الكفارِ يضحكونَ لا الكفارُ منهم كما كانُوا يفعلونَ في الدُّنيا. وقولُه تعالى: {عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ} حالٌ من فاعلِ يضحكونَ أي يضحكونَ منهم ناظرينَ إليهم وإلى ما هُم فيه من سوءِ الحالِ وقيلَ: يفتح للكفارِ بابٌ إلى الجنةِ فيقالُ لهم: اخرجُوا إليها فإذا وصلُوا إليها أُغلقَ دُونهم يفعلُ بهم ذلكَ مراراً ويضحكُ المؤمنونَ منهم ويأباهُ قولُه تعالى: {هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} فإنه صريحٌ في أنَّ ضحكَ المؤمنين منهم جزاءٌ لضحكِهم منهم في الدُّنيا فلابد من المجانسةِ والمشاكلةِ حتماً والتثويبُ والإثابةُ المجازاةُ وقرئ بإدغامِ اللامِ في الثاءِ. وعَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأَ سورةَ المطففينَ سقاهُ الله تعالى يومَ القيامةِ من الرحيقِ المختومِ».

.سورة الانشقاق:

.تفسير الآيات (1- 5):

{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)}
{إِذَا السماء انشقت} أي بالغمامِ كما في قولِه تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} وعن عليَ رضي الله تعالى عنه تنشقُ من المجرةِ {وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا} أي واستمعتْ أي انقادتْ وأذعنتْ لتأثيرِ قُدرتِهِ تعالى حين تعلقتْ إرادتهُ بانشقاقِها انقيادَ المأمورِ المطواعِ إذا وردَ عليه أمرُ الآمرِ المُطاعِ، والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إليها للإشعارِ بعلةِ الحُكْمِ وهذه الجملةُ ونَظيرتُها الآتيةُ بمنزلة قولِه تعالى: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} في الإنباء عن كونِ ما نُسبَ إلى السماءِ والأرضِ من الانشقاق والمد وغيرِهما جارياً على مُقْتضَى الحكمةِ كما أُشيرَ إليهِ فيما سلفَ {وَحُقَّتْ} أي جُعلت حقيقةً بالاستماع والانقيادِ لكنْ لا بعدَ أنْ لم تكنْ كذلك بلْ في نفسها وحدِّ ذاتها من قولهم هو محقوقٌ بكَذا وحقيقٌ به والمَعْنى انقادتْ لربِّها وهيَ حقيقةٌ بذلكَ لكنْ لا على أنَّ المرادَ خصوصيةُ ذاتها من بين سائرِ المقدوراتِ بل خصوصيةُ المقدرةِ القاهرةِ الربانيةِ التي يتأتى لها كلُّ مقدورٍ ولا يتخلفُ عنها أمرٌ من الأمورِ فحقُّ الجملةِ أن تكونَ اعتراضاً مقرراً لما قبلَها لا معطوفةً عليهِ {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} أي بُسطتْ بإزالة جبالِها وآكامِها من مقارِّها وتسويتِها بحيثُ صارتُ قاعاً صفصفاً لا ترَى فيها عوجاً ولا أمتاً أو زيدتْ سعَةً وبسطةً منْ مدَّهُ بمعنى أمدَّه أي زادَهُ {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أي رمتْ ما في جوفِها من الموتَى والكنوزِ كقولِه تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الارض أَثْقَالَهَا} {وَتَخَلَّتْ} وخلتْ عمَّا فيها غايةَ الخلوِّ حتَّى لم يبقَ فيها شيءٌ منه كأنَّها تكلفتْ في ذلكَ أقصَى جُهدِها {وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا} في الإلقاءِ والتخلِّي {وَحُقَّتْ} أيْ وهيَ حقيقةٌ بذلكَ أي شأنُها ذلكَ بالنسبةِ إلى القدرةِ الربانيةِ وتكريرُ كلمةِ إذا معَ اتحادِ الأفعالِ المنسوبةِ إلى السماءِ والأرضِ وقُوعاً في الوقتِ الممتدِّ الذي هُو مدلولُها قد مرَّ سِرُّه فيمَا مَرَّ.

.تفسير الآيات (6- 13):

{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)}
{يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً} أي جاهدٌ ومجدٌّ إلى الموت وما بعدَهُ من الأحوالِ التي مُثِّلتْ باللقاءِ مبالغٌ في ذلكَ فإنَّ الكدحَ جهدُ النفسِ في العملِ والكدُّ فيهِ بحيثُ يؤثرُ فيها من كَدَحَ جلدَهُ إذا خدَشَةُ {فملاقيه} أي فملاقٍ لهُ عقيبَ ذلكَ لا محالةَ من غيرَ صارفٍ يلويكَ عَنْهُ وقولُه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} الخ. قيلَ: جوابُ إذا كَما في قولِه تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وقولُه تعالى: {القرءان خَلَقَ الإنسان} الخ، اعتراضٌ وقيلَ: هو محذوفٌ للتهويل والإيماءِ إلى قصورِ العبارةِ عن بيانِه أوْ للتعويلِ على دلالةِ ما مَرَّ في سورةِ التكويرِ والانفطارِ عليهِ وقيلَ: هو ما دلَّ عليهِ قولُه تعالى: {القرءان خَلَقَ الإنسان} إلخ تقديرُه لاقَى الإنسانُ كَدحَهُ وقيلَ: هو قولهُ تعالى فملاقيهِ وما قبله اعتراضٌ وقيلَ: هو يا أيها الإنسانُ إلخ بإضمارِ القولِ ومعنى يسيراً سهلاً لا مناقشةَ فيه ولا اعتراضَ وعن الصديقةِ رضي الله عنها هُو أن يُعرّفَ ذنوبَهُ ثم يُتجاوزَ عَنْهُ {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي عشيرتِه المؤمنينَ أو فريقَ المؤمنينَ مُبتهجاً بحالِه قائلاً هاؤمُ اقرؤوا كتابيه، وقيلَ: إلى أهلهِ في الجنةِ من الحورِ والغلمانِ {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ} أي يُؤتاهُ بشمالِه من وراءِ ظهرِه قيلَ: تُغلُّ يمناهُ إلى عنقِه ويجعلُ شمالُه وراءَ ظهرِه فيؤتى كتابَهُ بشمالِه وقيلَ: تخلعُ يدُه اليُسْرَى من وراءِ ظهرِه {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} أي يتمنَّى الثبورَ وهو الهلاكُ ويدعُوه ياثبوارهُ تعالَ فإنه أوانُكَ وأنَّى له ذلكَ {ويصلى سَعِيراً} أي يدخلُها وقرئ: {يُصلّى} كقوله تعالى: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} وقرئ: {ويصلى} كما في قوله تعالى: {لِلظَّالِمِينَ نَارًا} {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ} فيما بينَ أهلِه وعشيرتِه في الدُّنيا {مَسْرُوراً} مترفاً بَطِراً مستبشراً كديدنِ الفجارِ الذينَ لا يهمهم ولا يخطُر ببالِم أمورُ الآخرةِ ولا يتفكرونَ في العواقبِ ولم يكُنْ حَزيناً متفكراً في حالهِ ومآلهِ كسنةِ الصلحاءِ والمتقينَ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ علةِ ما قَبلها.

.تفسير الآيات (14- 20):

{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}
وقولُه تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} تعليلٌ لسرورِه في الدُّنيا أي يظنُّ أنْ لَنْ يَرجعَ إلى الله تعالى تكذيباً للمعادِ وأنْ مخففةٌ مِنْ أنَّ سادَّةٌ معَ ما في حيزِها مسدَّ مفعولَيْ الظنِّ أو أحدَهُما عَلى الخِلافِ المعروفِ {بلى} إيجابٌ لما بعدَ لَنْ. وقولُه تعالى: {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} تحقيقٌ وتعليلٌ لهُ أيْ بَلَى ليحورَنَّ البتةَ إنَّ ربَّهُ الذي خلقَهُ كانَ به وبأعمالِه الموجبةِ للجزاءِ بصيراً بحيثُ لا يَخْفى منها خافيةٌ فلابد منْ رجعهِ وحسابِه وجزائِه عليها حَتماً، وقيلَ: نزلتْ الآيتانِ في أبي سَلَمةَ بنِ عبْدِ الأشد وأخيه الأسودِ {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق} هي الحمرةُ التي تُشاهدُ في أفقِ المغربِ بعد الغروبِ أو البياضُ الذي يليها سُميَ بهِ لرقتِه ومنْهُ الشفقةُ التي هي عبارةٌ عنْ رقةِ القلبِ {واليل وَمَا وَسَقَ} وما جمعَ وضمَّ يقالُ: وسقَهُ فاتَّسقَ واستوسقَ أي جمعهُ فاجتمعَ وما عبارةٌ عمَّا يجتمعُ بالليلِ ويأوِي إلى مكانهِ من الدوابِّ وغيرِها {والقمر إِذَا اتسق} أي اجتمعَ وتمَّ بدراً ليلة أربعَ وعشرةَ.
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} أي لتُلاقُنَّ حالاً بعدَ حالٍ كُلُّ واحدةٍ منهَا مطابقةٌ لأختها في الشدةِ والفظاعةِ وقيلَ: الطبقُ جمع طبقةٍ وهي المرتبةُ وهو الأوفقُ للركوبِ المنبىءُ عن الاعتلاءِ والمَعْنَى لتركَبُنَّ أحوالاً بعدَ أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدةِ بعضُها أرفعُ من بعضٍ وهي الموتُ وما بعدَه من مواطنِ القيامةِ ودواهيها وقرئ: {لتَرْكَبَنَّ} بالإفرادِ على خطابِ الإنسانِ باعتبارِ اللفظِ لا باعتبارِ شمولهِ لأفرادِه كالقراءةِ الأولى وقرئ بكسرِ الياءِ على خطابِ النفسِ وليَرْكَبَنَّ بالياءِ أي ليركَبَنَّ الإنسانُ ومحلُّ عن طبقٍ النصبُ على أنَّه صفةٌ لطبقاً أي طبقاً مجاوزاً لطبقٍ أو حالٌ من الضميرِ لتركبنَّ أي لتركبنَّ طبقاً مجاوزينَ أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حسبِ القراءةِ والفاءُ في قولِه تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لترتيب ما بعَدَها منَ الإنكار والتعجيبِ على ما قبلَها من أحوالِ يومِ القيامةِ وأهوالِها الموجبةِ للإيمانِ والسجودِ أيْ إذا كانَ حالُهم يومَ القيامةِ كما ذُكِرَ فأيُّ شيءٍ لهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنينَ أي أيُّ شيءٍ يمنعُهم من الإيمانِ معَ تعاضدِ موجباتِه.

.تفسير الآيات (21- 25):

{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}
وقولُه تعالى: {وَإِذَا قرئ عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ} جملةٌ شرطيةٌ محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ نسقاً على ما قَبلَها أيْ فأيُّ مانعٍ لهم حالُ عدمِ سجودِهم وخضوعِهم واستكانتهم عندَ قراءةِ القُرآنِ، وقيلَ: قرأ النبيُّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ ذاتَ يومٍ: {واسجدْ واقتربْ} فسجدَ هُو وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ وقريشٌ تصفقُ فوقَ رؤوسهم وتصفرْ فنزلتْ وبه احتجَّ أبُو حنيفةٍ رحمَهُ الله تعالَى عَلى وجوبِ السجدةِ وعنِ ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما ليسَ في المفصلِ سجدةٌ، وعن أبي هريرةٍ رضي الله عنهُ أنَّه سجَدَ فيها وقالَ: والله ما سجدتُ إلا بعدَ أن رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسجدُ فيها. وعن أنسٍ رضيَ الله عَنْهُ صليتُ خلفَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ رضيَ الله عنهم فسجدُوا وعن الحسنِ هي غيرُ واجبةٍ {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ} بالقرآنِ الناطقِ بما ذُكِرَ من أحوالِ القيامةِ وأهوالِها مع تحققِ موجباتِ تصديقهِ ولذلكَ لا يخضعونَ عندَ تلاوتِه {والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} بما يضمرونَ في قلوبِهم ويجمعونَ في صدورِهم من الكفرِ والحسدِ والبغي والبغضاءِ أو بما يجمعونَ في صحفهم من أعمالِ السوءِ ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذابِ علماً فعلياً {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لأنَّ علمَهُ تعالَى بذلكَ على الوجه المذكورِ موجبٌ لتعذيبهم حتماً {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} استثناءٌ منقطعٌ إنْ جُعلَ الموصولُ عبارةً عن المؤمنينَ كافَّة ومتصلٌ إنْ أريدَ به منْ امنَ منهمُ بعدَ ذلكَ وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غيرُ مقطوعٍ أو ممنونٍ به عليهم استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الاستثناءُ من انتفاءِ العذابِ عنهم ومبينٌ لكيفيتهِ ومقارنتِه للثوابِ العظيمِ.
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «منْ قَرَأَ سورةَ انشقتْ أعاذَهُ الله تعالَى أنْ يعطيَهُ كتابَهُ وراءَ ظهرِه».

.سورة البروج:

.تفسير الآيات (1- 4):

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)}
{والسماء ذَاتِ البروج} هيَ البروجُ الاثنَا عشرَ شبهتْ بالقصورِ لأنَّها تنزلُها السياراتُ ويكونُ فيِها الثوابتُ، أو منازلُ القمرِ أو عظامُ الكواكبِ سميتْ بروجاً لظهورِها أو أبوابِ السماءِ فإنَّ النوازلَ تخرجُ منها، وأصلُ التركيبِ للظهورِ {واليوم الموعود} أي يومُ القيامةِ {وشاهد وَمَشْهُودٍ} أيْ ومَنْ يشهدُ في ذلكَ اليومِ من الخلائقِ وما يحضرُ فيهِ من العجائبُ، وتنكيرُهُمَا للإبهامِ في الوصفِ أي وشاهدٍ ومشهودٍ لا يُكتنهُ وصفُهُمَا أو للمبالغةِ في الكثرةِ وقيلَ: الشاهدُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم والمشهودُ يومُ القيامةِ، وقيلَ: عيسَى عليهِ السلامُ وأمتهُ لقولِه تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} الخ، وقيلَ: أمةُ محمدٍ وسائرُ الأممِ، وقيلَ: يومُ الترويةِ ويومُ عرفةٍ، وقيلَ: يومُ عرفةَ ويومُ الجمعةِ، وقيلَ: الحجرُ الأسودُ والحجيجُ، وقيلَ: الأيامُ والليالي وبنُو آدمَ. وعن الحسنِ مَا منْ يومٍ إلا ويُنادي إني يومٌ جديدٌ وإنِّي عَلى ما يعملُ فيَّ شهيدٌ فاغتنمني فَلَوْ غَابَتْ شَمْسِي لَمْ تُدركِني إلى يومِ القيامةِ. وقيلَ: الحفظةُ وبنُو آدمَ، وقيلَ: الأنبياءُ ومحمدُ عليهم الصلاةُ السلامُ {قُتِلَ أصحاب الأخدود} قيلَ: هوَ جوابُ القسمِ عَلَى حذفِ اللامِ منهُ للطولِ، والأصلُ لقتلَ كَمَا في قولِ مَنْ قالَ:
حَلَفتُ لَها بالله حِلْفَةَ فَاجِر ** لَنَامُوا فَمَا إنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلاَ صَالِ

وقيلَ: تقديرُهُ لَقدْ قتلَ وأياً ما كانَ فالجملةُ خبريةٌ والأظهرُ أنَّها دعائيةٌ دالةٌ على الجوابِ كأنَّها قيلَ: أقسمُ بهذهِ الأشياءِ أنهمْ أيْ كفارَ مكةَ ملعونونَ كما لعنَ أصحابُ الأخدودِ لَمَّا أنَّ السورةَ وردتْ لتثبيتِ المؤمنينِ عَلى ما هُمْ عليه من الإيمانِ وتصبيرِهم على أذية الكفرةِ وتذكيرهم بما جرى عَلى من تقدمهُم من التعذيبِ على الإيمانِ وصبرُهُم عَلى ذلكَ حَتَّى يأنسوا بِهمْ ويصبُروا على ما كانُوا يلقونَ من قومِهم ويعلُموا أنَّ هؤلاءِ عندَ الله عزَّ وجلَّ بمنزلةِ أولئكِ المُعذِّبينِ ملعونونَ مثلُهم أحقاءُ بأنْ يقالَ فيهمْ ما قَدْ قيلَ فيهمْ وقرئ: {قُتِّلَ} بالتشديدِ والأخدودُ الخَدُّ في الأرضِ وهو الشقُّ ونحوهِما بناء ومعنى الحق والأحقوق. رُويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم «أنه كانَ لبعضِ الملوكِ ساحرٌ فلما كبرَ ضَمَّ إليهِ غلاماً ليعلِّمهُ السحرَ وكانَ في طريقِ الغلامِ راهبٌ فسمعَ منْهُ فرأى في طريقهِ ذاتَ يومٍ دابةً قدْ حبستِ النَّاسَ، قيلَ: كانتِ الدابةُ أسداً فأخذَ حَجَراً فقالَ: اللهمّ إنْ كانَ الراهبُ أحبَّ إليكَ منَ الساحرِ فاقتلْهَا فكانَ الغلامُ بعدَ ذلكَ يبرىءُ الأكمه والأبرصَ ويَشفيَ من الأدواءِ وعمي جليسٌ للمكِ فأبرأَهُ فأبصرَهُ الملكُ فسألهُ منْ ردَّ عليكَ بصركَ؟ فقالَ: ربِّي فغضبَ فعذَّبه فدلَّ علَى الغلامِ فعذَّبه فدلَّ على الراهبِ فلم يرجعِ الراهبُ عن دينِه فقدَّ بالمنشارِ وأبى الغلامُ فذهبَ بهِ إلى جبلٍ ليطرحَ من ذروته فدعا فرجفَ بالقومِ فطاحُوا ونجَا فذهبَ به إلى قُرْقُورٍ فلججُوا بِه ليغرقُوه فدعا فانكفأتْ بهم السفينةُ فغرقُوا ونجَا فقالَ للملكِ: لستَ بقاتِلي حَتَّى تجمعَ النَّاسَ في صعيدٍ وتصلبني عَلى جذْعٍ وتأخذَ سَهْماً من كنانتي وتقولَ باسمِ الله ربِّ الغُلامِ ثمَّ ترميني بهِ فرماهُ فوقعَ في صُدغِه فوضَعَ يَدَهُ عليهِ وماتَ فقالَ النَّاسُ: آمنَّا بربِّ الغلامِ قيلَ للمكِ: نزلَ بكَ ما كنتَ تحذرُ فأمرَ بأخاديدَ في أفواهِ السككِ وأوقدتْ فيها النيرانُ فمنْ لَمْ يرجعْ منهمْ طرحَهُ فيها حتَّى جاءت امرأةٌ معها صبيٌّ فتقاعستْ فقالَ الصبيُّ: يا أماهُ اصبري فإنَّكِ على الحق فاقتحمتْ».
وقيلَ: قال لها: قعي ولا تنافقي ما هي إلا غميضةٌ فصبرتْ. قيلَ: أُخرجَ الغلامُ منْ قبرهِ في خلافةِ عمر بْنِ الخطابِ رضيَ الله عنهُ وأصبعُهُ على صُدْغِه كَما وضعها حينَ قتلَ، وعنْ عليَ رضيَ الله عنهُ: أنَّ بعضَ ملوكِ المجوسِ وقعَ عَلىَ أختهِ وهو سكرانُ فلما صحا ندمَ وطلبَ المخرجَ فقالتْ لَهُ: المخرجُ أن تخطبَ بالنَّاسِ فتقولَ: إنَّ الله قدْ أحلَّ نكاحَ الأخواتِ ثمَّ تخطبُهم بعدَ ذلكَ أنَّ الله قد حرَمَهُ فخطبَ فلم يقبلُوا مِنْهُ، فقالتْ لَهُ: ابسطْ فيهمْ السوطَ ففعلَ فلم يقبلُوا، فقالتْ: ابسطْ فيهم السيفَ ففعلَ فلم يقبلُوا، فأمرَ بالأخاديدِ وإيقادِ النارِ وطرحَ منْ أَبَى فيها فهمْ الذينَ أرادهُم الله تعالى بقولِه: {قُتِلَ أصحاب الأخدود}. وقيلَ: وقعَ إلى نجرانَ رجلٌ ممنْ كانَ على دينِ عيسى عليه السلامُ فدعاهُم فأجابوُه فسارَ إليهم ذُو نواسٍ اليهوديُّ بجنودٍ من حِمْيرٍ فخيرهُمْ بينَ النارِ واليهوديةِ فأبوَا فأحرقَ منهمْ اثني عشرَ ألفاً في الأخاديدِ وقيلَ: سبعينَ ألفاً وذكرَ أنَّ طولَ الأخدودِ أربعونَ ذراعاً وعرضَهُ اثنا عشرَ ذِراعاً.